recent
أخبار ساخنة

الحبل الشوكي: سر التواصل العصبي في الجسم البشري

يُعَدّ الحبل الشوكي أحد الأعمدة الأساسية في الجهاز العصبي المركزي للإنسان، وهو مع الدماغ يشكّلان المركز المسؤول عن استقبال المعلومات الحسية من الجسم، وتحليلها، وإرسال الأوامر العصبية اللازمة لتنفيذ الاستجابات المناسبة.


الحبل الشوكى
الحبل الشوكي (The Spinal Cord)




الحبل الشوكي (The Spinal Cord)



إذا كان الدماغ هو مركز التفكير والوعي، فإن الحبل الشوكي هو خط الاتصال الحيوي الذي يربط الدماغ بسائر أجزاء الجسم، فهو بمثابة "الكابل العصبي الرئيسي" الذي تمر من خلاله ملايين الإشارات العصبية كل لحظة.

إن أي ضرر يصيب الحبل الشوكي يؤثر مباشرة في قدرة الإنسان على الحركة والإحساس، وقد يؤدي في الحالات الخطيرة إلى الشلل التام أو فقدان الوظائف الحيوية ،ولهذا فإن دراسة الحبل الشوكي من حيث تركيبه، ووظائفه، وآلياته العصبية، وأمراضه، تعد من أهم فروع علم الأعصاب والطب العصبي الحديث.


التركيب التشريحي للحبل الشوكي


الموقع والطول 
يمتد الحبل الشوكي داخل قناة الفقرات التي تشكلها الفقرات العظمية، من قاعدة الجمجمة (عند النخاع المستطيل) حتى الفقرة القطنية الثانية تقريبًا، يبلغ طوله في البالغين نحو 45 سنتيمترًا في الذكور و43 سنتيمترًا في الإناث، ويكون أكثر سماكة في منطقتين:
  • التضخم العنقي: الذي يمد الذراعين بالأعصاب.
  • التضخم القَطَني: الذي يغذي الأطراف السفلية.

وينتهي الحبل الشوكي بما يُعرف بـ المخروط النخاعي (Conus medullaris)، ومنه تمتد ألياف عصبية تُعرف بـ ذيل الفرس (Cauda equina).

 التركيب الداخلي


يتكوّن الحبل الشوكي من جزأين رئيسيين: المادة الرمادية والمادة البيضاء.

 المادة الرمادية 

تقع في مركز الحبل الشوكي وتتشكل على هيئة حرف (H) أو فراشة. تحتوي هذه المادة على أجسام الخلايا العصبية، وتُقسّم إلى ثلاثة قرون رئيسية:


  • القرن الأمامي: يحتوي على خلايا عصبية حركية ترسل أوامرها إلى العضلات الإرادية.
  • القرن الخلفي: يستقبل الإشارات الحسية القادمة من الجلد والعضلات والمفاصل.
  • القرن الجانبي: يوجد في المناطق الصدرية والقطنية العليا، ويحتوي على خلايا الجهاز العصبي الذاتي (اللاإرادي).

 المادة البيضاء


تحيط بالمادة الرمادية من جميع الجهات، وتحتوي على محاور عصبية مغلفة بغمد المايلين الذي يُسرّع نقل النبضات العصبية.
وتنقسم المادة البيضاء إلى ثلاث حُزَم:
  1. الحزمة الأمامية.
  2. الحزمة الجانبية.
  3. الحزمة الخلفية.

تحمل هذه الحزم مسارات عصبية متخصصة:
  • المسارات الصاعدة (Sensory tracts): تنقل المعلومات الحسية إلى الدماغ.
  • المسارات النازلة (Motor tracts): تنقل الأوامر الحركية من الدماغ إلى العضلات.

الأعصاب الشوكية


يخرج من الحبل الشوكي 31 زوجًا من الأعصاب الشوكية، تتفرع إلى:
  • 8 أعصاب عنقية (C1–C8)
  • 12 عصبًا صدريًا (T1–T12)
  • 5 أعصاب قطنية (L1–L5)
  • 5 أعصاب عجزية (S1–S5)
  • 1 عصب عصعصي (Co1)

كل عصب شوكي يتكوّن من جذرين:
  1. الجذر الأمامي (الحركي): ينقل الأوامر من الحبل الشوكي إلى العضلات.
  2. الجذر الخلفي (الحسي): ينقل المعلومات الحسية من الجسم إلى الحبل الشوكي.


الأغشية الواقية والسائل الدماغي الشوكي


يُحاط الحبل الشوكي بثلاث طبقات واقية تُسمّى السحايا (Meninges)، وهي:

  1. الأم الجافية (Dura mater): الغشاء الخارجي السميك المتين.
  2. الأم العنكبوتية (Arachnoid mater): الغشاء الأوسط الرقيق الذي يشبه نسيج العنكبوت.
  3. الأم الحنون (Pia mater): الغشاء الداخلي الملتصق مباشرة بسطح الحبل الشوكي.

بين الأم العنكبوتية والأم الحنون توجد المسافة تحت العنكبوتية، وهي مملوءة بـ السائل الدماغي الشوكي (CSF)، الذي يعمل على:

  • حماية الحبل الشوكي من الصدمات.
  • توفير بيئة مغذية للخلايا العصبية.
  • الحفاظ على ضغط داخلي ثابت.


الوظائف الحيوية للحبل الشوكي


 نقل الإشارات العصبية

يقوم الحبل الشوكي بنقل المعلومات الحسية من مستقبلات الجسم إلى الدماغ، كما ينقل الأوامر الحركية من الدماغ إلى العضلات.
  1. المسارات الصاعدة: مثل المسار الشوكي المهادي، المسؤول عن نقل الإحساس بالألم والحرارة.
  2. المسارات النازلة: مثل المسار الهرمي (السبيل القشري الشوكي)، المسؤول عن التحكم في الحركات الإرادية الدقيقة.

 تنظيم الأفعال المنعكسة (Reflexes)

الأفعال المنعكسة هي استجابات فورية لا إرادية يقوم بها الجسم لحماية نفسه.
يتكوّن القوس الانعكاسي من خمسة عناصر:
  • مستقبل حسي.
  • عصب حسي.
  • مركز عصبي في الحبل الشوكي.
  • عصب حركي.
  • عضلة مستجيبة.

مثال: عند لمس جسم ساخن، يُرسل المستقبل الحسي إشارة إلى الحبل الشوكي، الذي يرسل بدوره أمرًا إلى العضلة لسحب اليد فورًا، قبل أن تصل المعلومة إلى الدماغ.

 التنسيق بين الحركات

يساهم الحبل الشوكي في تنسيق الحركات العضلية المعقدة، مثل المشي والركض، من خلال تفاعل متواصل بين المسارات العصبية الصاعدة والنازلة، مما يضمن دقة الحركة وتوازنها.





الأمراض والإصابات التي تصيب الحبل الشوكي



الإصابات الميكانيكية (Traumatic injuries)

تُعدّ الحوادث المرورية والسقوط من أبرز أسباب إصابات الحبل الشوكي ، وقد تكون الإصابة كاملة أو جزئية:


  1. الإصابة الكاملة: انقطاع تام للاتصال العصبي، يؤدي إلى شلل كلي أسفل موقع الإصابة.
  2. الإصابة الجزئية: بقاء جزء من الوظائف العصبية، كالشعور بالألم أو حركة بسيطة.

أنواع الشلل:
  • إصابة عنقية → شلل رباعي (الأطراف الأربعة)
  • إصابة صدرية أو قطنية → شلل سفلي (النصف الأسفل من الجسم)


 الأمراض الالتهابية


  • التهاب النخاع المستعرض (Transverse Myelitis): التهاب في جزء من الحبل الشوكي يسبب ضعفًا أو شللاً وفقدانًا للإحساس.
  • التصلب المتعدد (Multiple Sclerosis): مرض مناعي يهاجم غلاف المايلين، مما يبطئ أو يوقف نقل الإشارات العصبية.


 الأورام والنموات

قد تتكوّن أورام داخلية أو خارجية تضغط على الحبل الشوكي، مسببة ألمًا شديدًا وفقدان الإحساس التدريجي.


 العدوى والأمراض الفيروسية

مثل:
  1. شلل الأطفال (Poliomyelitis): يهاجم الفيروس الخلايا العصبية الحركية، مما يؤدي إلى ضعف دائم.
  2. الزُّهري العصبي: أحد مضاعفات مرض الزهري التي تصيب الأعصاب الشوكية.
  3. تشخيص أمراض الحبل الشوكي

تستخدم طرق متعددة لتشخيص أمراض الحبل الشوكي، منها:
  • التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI): أدق وسيلة لرؤية البنية الداخلية للحبل الشوكي.
  • الأشعة المقطعية (CT): للكشف عن الكسور أو الضغط العظمي.
  • البزل القطني (Lumbar puncture): لتحليل السائل الدماغي الشوكي.
  • اختبارات التوصيل العصبي: لتقييم وظيفة الأعصاب المحيطية.


العلاج وإعادة التأهيل


العلاج الطبي والجراحي
  1. تثبيت العمود الفقري لمنع تفاقم الضرر.
  2. استخدام الكورتيزون لتقليل الالتهاب بعد الإصابات الحادة.
  3. التدخل الجراحي لإزالة الضغط أو الأورام أو لإصلاح الفقرات.

العلاج الفيزيائي وإعادة التأهيل

يهدف إلى استعادة أقصى قدر ممكن من الوظائف العصبية والحركية.
يشمل:
  • التمارين العلاجية.
  • التحفيز الكهربائي للعضلات.
  • تدريب المريض على استخدام الأجهزة المساعدة مثل الكرسي المتحرك أو المشّاية.

 الأبحاث الحديثة

تركّز الأبحاث الحديثة على استخدام:

  1. الخلايا الجذعية لإعادة نمو الألياف العصبية.
  2. الأطراف الصناعية العصبية (Neuroprosthetics) التي تربط الدماغ مباشرة بالأطراف.
  3. التحفيز الكهربائي للحبل الشوكي لاستعادة القدرة على المشي.

وقد حققت هذه التقنيات تقدمًا واعدًا في تمكين بعض المرضى من استعادة الحركة بعد الشلل الكامل.


الخاتمة

يمثّل الحبل الشوكي مع الدماغ الأساس الذي يقوم عليه الجهاز العصبي البشري، فهو مركز الاتصالات بين الفكر والفعل، بين الإحساس والاستجابة ، وأي ضرر يصيبه ينعكس بعمق على حياة الإنسان الجسدية والنفسية.


إن الاهتمام بسلامة العمود الفقري والوقاية من الإصابات، إضافة إلى دعم الأبحاث العلمية في مجالات العلاج العصبي، يُعدّ استثمارًا في الحفاظ على جوهر إنسانيتنا، لأن القدرة على الإحساس والحركة هي ما يجعل الإنسان كائنًا حيًا واعيًا متفاعلًا مع بيئته.


المراجع المقترحة


Guyton, A.C. & Hall, J.E. Textbook of Medical Physiology, Elsevier, 2021.


Kandel, E.R. et al. Principles of Neural Science, McGraw-Hill, 2021.


Tortora, G.J. & Derrickson, B. Principles of Anatomy and Physiology, Wiley, 2020.


مقالات طبية من موقع Mayo Clinic و Johns Hopkins Medicine حول إصابات الحبل الشوكي.
google-playkhamsatmostaqltradent