recent
أخبار ساخنة

البكتيريا النافعة… الجنود الخفية في معركة البقاء

في عالمٍ لا يُرى بالعين المجردة، تعيش مليارات الكائنات الدقيقة التي تشاركنا الحياة في كل لحظة ، منها ما يُسبّب المرض، ومنها ما يحمي منه، ولطالما ارتبطت كلمة "بكتيريا" في أذهان الناس بالخطر والعدوى، إلا أنّ العلم الحديث كشف لنا جانبًا آخر من الحقيقة، جانبًا أكثر روعة ودهشة. 


فهناك بكتيريا نافعة تعمل بصمت ودقة على حماية أجسامنا من الداخل، وتُسهم في الحفاظ على صحتنا وتوازننا الحيوي، حتى أصبحت تُعرف بلقب “حُماة الجسد الخفيّين”.


البكتيريا النافعة
الجنود الخفيه فى معركه البقاء



البكتيريا النافعة ودورها الحيوي في القضاء على البكتيريا الضارة


هذه المقالة رحلة علمية شيّقة داخل عالم البكتيريا النافعة، نتعرّف فيها على أنواعها، وآليات عملها، ودورها العظيم في مقاومة البكتيريا الضارة، بل وفي بناء صحة الإنسان الجسدية والنفسية أيضًا.

ماهي البكتيريا النافعة؟


البكتيريا النافعة، أو كما يسميها العلماء البروبيوتيك (Probiotics)، هي كائنات دقيقة تعيش داخل أجسام الكائنات الحية، خاصة في الجهاز الهضمي، وتشكّل توازنًا بيولوجيًا دقيقًا يُعرف باسم الفلورا المعوية أو الميكروبيوم.

وليس الأمر مبالغًا فيه عندما يقول العلماء إن عدد خلايا البكتيريا في أجسامنا يفوق عدد خلايانا البشرية بعشرة أضعاف تقريبًا! فالجسم البشري، في الحقيقة، ليس كيانًا منفصلًا، بل مجتمع حيّ يضمّ مليارات الكائنات المتناهية الصغر التي تتعاون فيما بينها لتضمن بقاء الإنسان بصحة وعافية.


 أصل العلاقة بين الإنسان والبكتيريا النافعة


تبدأ علاقتنا بالبكتيريا النافعة منذ اللحظات الأولى للحياة ، فعند الولادة، يكتسب الطفل أنواعًا من هذه البكتيريا من قناة الولادة ومن لبن الأم، لتبدأ حينها عملية تكوين "الميكروبيوم الشخصي" الذي يستمر في التطور طيلة حياة الإنسان.

تتأثر تركيبة هذا الميكروبيوم بعوامل كثيرة مثل نوع الغذاء، ونمط الحياة، واستخدام الأدوية، وحتى الحالة النفسية ، وكلما حافظ الإنسان على توازن هذه البكتيريا، كان جسده أكثر مقاومة للأمراض.


كيف تقضي البكتيريا النافعة على البكتيريا الضارة؟


من أعجب ما اكتشفه العلم أن البكتيريا النافعة لا تكتفي بحماية الجسد من الداخل، بل تخوض معارك يومية ضد البكتيريا الضارة، مستخدمة أسلحة طبيعية متعددة وآليات معقّدة من التعاون الحيوي، منها:

  •  المنافسة على الغذاء والمكان : البكتيريا الضارة لا تستطيع النمو إلا إذا وجدت بيئة مناسبة وغذاء كافٍ. وهنا يأتي دور البكتيريا النافعة التي تسبقها إلى تلك البيئات، وتحتل الأماكن الحساسة في الأمعاء وعلى الأغشية المخاطية، فتمنع الضارة من الالتصاق بالجدران المعوية، وتحرمها من مصادر الطاقة.
  • إفراز مركّبات قاتلة للبكتيريا الضارة: بعض أنواع البكتيريا النافعة تنتج مواد طبيعية تُسمى البكتريوسينات، وهي شبيهة بالمضادات الحيوية لكنها آمنة تمامًا للجسم. هذه المواد تقضي على البكتيريا الممرضة مثل السالمونيلا والإشريكية القولونية والكلوستريديوم.
  • تعديل درجة الحموضة في الأمعاء : تُفرز البكتيريا النافعة أحماضًا عضوية كحمض اللاكتيك وحمض الخليك، مما يجعل الوسط الداخلي أكثر حموضة. هذا الوسط لا يناسب نمو معظم الكائنات الضارة التي تفضل البيئات القلوية.
  • تحفيز جهاز المناعة : وجود البكتيريا النافعة يدرّب جهاز المناعة على التمييز بين "العدو" و"الصديق"، فيتعلم مهاجمة البكتيريا الممرضة وتجاهل الكائنات النافعة. كما تزيد هذه البكتيريا من إنتاج الأجسام المضادة وتفعّل الخلايا المناعية الدفاعية.
  •  تفكيك السموم ومنع انتشارها : بعض الأنواع مثل Bifidobacterium bifidum تمتلك القدرة على تحليل السموم التي تنتجها البكتيريا الضارة، ومن ثم إخراجها من الجسم قبل أن تسبب ضررًا في الأنسجة أو الأعضاء.


أنواع البكتيريا النافعة ووظائفها

هناك مئات الأنواع من البكتيريا النافعة التي اكتشفها العلماء، لكن من أهمها:

النوع مكان التواجد الدور الحيوي
Lactobacillus acidophilus الأمعاء الدقيقة يساعد في هضم اللاكتوز ويمنع الإسهال والالتهابات.
Bifidobacterium bifidum القولون يحافظ على توازن الميكروبيوم ويقوّي المناعة.
Lactobacillus rhamnosus الأمعاء والمعدة يقاوم البكتيريا الممرضة ويقلل من التهابات المعدة.
Saccharomyces boulardii الجهاز الهضمي خميرة نافعة تعالج الإسهال الناتج عن المضادات الحيوية.
Lactobacillus casei الأمعاء الغليظة يساعد في امتصاص الفيتامينات ويكافح الانتفاخات.





العلاقة بين المضادات الحيوية والبكتيريا النافعة


رغم أن المضادات الحيوية تُعدّ من أهم إنجازات الطب الحديث، إلا أنها سلاح ذو حدين فهي لا تفرّق بين العدو والصديق، فتقضي على البكتيريا الضارة والنافعة معًا.

وعندما يقل عدد البكتيريا النافعة في الأمعاء، يختل التوازن الميكروبي، مما يفتح الباب أمام نمو البكتيريا الممرضة مجددًا، ويسبب أعراضًا مثل الإسهال، والانتفاخ، وضعف المناعة. ولهذا يُنصح دائمًا بتناول مكملات البروبيوتيك أو الأطعمة المخمرة بعد استخدام المضادات الحيوية.

المصادر الطبيعية للبكتيريا النافعة


لحسن الحظ، يمكن تعزيز وجود البكتيريا النافعة في أجسامنا من خلال النظام الغذائي، وأبرز المصادر هي:


  1. اللبن والزبادي الطبيعي : يحتوي على أنواع متعددة من Lactobacillus التي تساهم في توازن الجهاز الهضمي.
  2. الكفير (Kefir) : مشروب حليب مخمّر غني بالبروبيوتيك، يفوق الزبادي في تنوع أنواعه البكتيرية.
  3. المخللات الطبيعية : بشرط أن تكون مخمرة طبيعيًا دون استخدام الخل الصناعي أو التعقيم الحراري.
  4. منتجات الصويا المخمرة مثل الميسو والتيمبيه في المطبخ الآسيوي.
  5. مكملات البروبيوتيك الدوائية وهي كبسولات أو مسحوق يحتوي على سلالات محددة من البكتيريا النافعة.



فوائد البكتيريا النافعة خارج الجهاز الهضمي


لم يعد العلماء يعتبرون البكتيريا النافعة مختصة فقط بالأمعاء، بل اتضح أن تأثيرها يمتد إلى مناطق وأجهزة أخرى في الجسم:

  • تحسين المزاج والصحة النفسية: تُنتج البكتيريا النافعة نواقل عصبية مثل السيروتونين والدوبامين، ما يربطها مباشرة بما يسمى محور الأمعاء–الدماغ.
  • تعزيز صحة الجلد:تساعد في الوقاية من حب الشباب والأكزيما عبر تقليل الالتهابات الجلدية وتنظيم المناعة.
  • الحفاظ على الوزن المثالي:بعض الأنواع تقلل امتصاص الدهون وتزيد من حرق الطاقة، مما يساهم في مكافحة السمنة.
  • الوقاية من أمراض المناعة الذاتية:مثل السكري من النوع الأول والتهابات المفاصل الروماتويدية، حيث توازن الاستجابات المناعية المفرطة.


 التوازن الميكروبي وأهميته


تعيش البكتيريا النافعة والضارة في حالة من التوازن الديناميكي ، فإذا اختل هذا التوازن بسبب سوء التغذية أو التوتر أو تناول المضادات الحيوية، فإن الجسم يصبح أكثر عرضة للالتهابات والأمراض المزمنة.

وقد وجدت الأبحاث أن الأشخاص الذين يملكون ميكروبيومًا متنوعًا وغنيًا بالبكتيريا النافعة يتمتعون بمناعة أقوى وحالة نفسية أفضل مقارنة بغيرهم.


 كيف نحافظ على بكتيريا أجسامنا النافعة؟


  • تناول الأطعمة الغنية بالألياف مثل الخضروات والحبوب الكاملة، لأنها غذاء مفضل للبكتيريا النافعة.
  • تجنّب الإفراط في استخدام المضادات الحيوية إلا عند الضرورة.
  • الابتعاد عن الأغذية المعالجة والمليئة بالسكريات الصناعية.
  • النوم الكافي وممارسة الرياضة بانتظام، فهما يعززان توازن الميكروبيوم.
  • إدارة التوتر النفسي، لأن الضغط العصبي يؤثر سلبًا على تنوع البكتيريا المفيدة.

مستقبل البكتيريا النافعة في الطب


دخلت البكتيريا النافعة عصر الطب الحديث من أوسع أبوابه،  فقد بدأت التجارب لاستخدامها في علاج أمراض الجهاز الهضمي المزمنة مثل القولون العصبي، والاضطرابات النفسية كالاكتئاب والقلق، بل وحتى في الوقاية من السرطان.

ويعمل العلماء اليوم على تطوير ما يُعرف بـ العلاج بالبروبيوتيك الشخصي، حيث يُزرع لكل إنسان مزيج خاص من البكتيريا المفيدة يتناسب مع حالته الصحية وبيئته الجينية.


خاتمة

في نهاية هذه الرحلة داخل العالم المجهري، ندرك أن البكتيريا النافعة ليست مجرد كائنات صغيرة تسبح في أمعائنا، بل هي شركاء في الحياة، تؤدي أدوارًا حيوية في حماية الجسد من الداخل، وتنظيم جهازه المناعي، وحتى تحسين حالته النفسية.

إنها مثال حيّ على الانسجام الكوني بين المخلوقات، حيث تعمل أصغر الكائنات على حفظ توازن أعظمها ، فكما أن البكتيريا الضارة تهدد حياتنا، فإن البكتيريا النافعة تحفظها وتعيد إليها عافيتها كل يوم دون أن نشعر.

ولذلك، فإن الاهتمام بتغذيتها ودعم وجودها في أجسامنا ليس ترفًا، بل هو واجب صحي وإنساني يضمن لنا حياة أطول وأفضل وأكثر توازنًا.
google-playkhamsatmostaqltradent