لم يعد صغيرًا، لكنّه لم يصبح بعد “شابًا مثل الآخرين” إنه الآن في مرحلة المراهقة.
![]() |
| فتره المراهقه لطيف التوحد |
من الطفولة إلى العبور الصعب
المنعطف الأكثر حساسية وتعقيدًا في حياة كل مصاب بالتوحّد وأسرته ، فالطفولة كانت مليئة بالعلاج والدعم والروتين،أما الآن فالمشاعر أقوى، والأسئلة أكبر، والجسد يتغيّر،
بينما لا تزال الكلمات قليلة والارتباك كثير.
صراعات داخلية لا تُرى
في هذه المرحلة، يواجه المراهق المصاب بالتوحّد حربًا صامتة بين داخله والعالم من حوله ، يبدأ يشعر بأنه مختلف، يلاحظ نظرات الآخرين، يسمع الهمسات، ويحاول أن يفهم معنى “أنا” في عالمٍ لا يشبهه كثيرًا.
قد يشعر بالخوف من التغيير، أو بالغضب، أو حتى بالحزن دون أن يعرف كيف يعبّر عنه ، يجد صعوبة في فهم جسده الجديد، أو في التواصل مع أقرانه وفي أحيان كثيرة، ينعزل أكثر لأنه لم يجد من يشرح له ما يحدث بلغة يفهمها.
لكن الحقيقة أن خلف هذا الصمت عقلًا واعيًا يبحث عن ذاته ، وروحًا تريد فقط أن تُعامَل بكرامة واحترام لا بالشفقة.
المراهقة في طيف التوحّد ليست عجزًا بل مرحلة لإعادة الاكتشاف
العلم يؤكد أن المراهقة بالنسبة للمصابين بالتوحّد قد تكون نقطة تحوّل إيجابية، ففيها تنضج بعض القدرات الإدراكية، ويزداد الوعي الذاتي ، وقد يبدأ المراهق في التعبير عن نفسه بطرق جديدة ، كالرسم، أو الكتابة، أو حتى الاهتمام بمجالٍ محدد بشغفٍ مذهل.
لكن هذا التطور يحتاج إلى بيئة آمنة وداعمة أسرة تفهم، مدرسة تتقبّل، ومجتمع يدمج دون حكم.
التواصل مع المراهق المصاب بالتوحّد
التواصل هنا لا يكون بالكلمات فقط، بل بالفهم العميق ، الأهل يجب أن يتذكروا أن ابنهم لم يفقد قدرته على الحبّ، بل يعبّر عنه بشكل مختلف ربما في صمته، أو في نظراته، أو حتى في تفاصيل صغيرة.
بعض النصائح المهمّة للأهل:
- لا تقلّل من مشاعره أو تتجاهلها.
- استخدم جملًا قصيرة وواضحة عند الحديث معه.
- اجعل له مساحة شخصية آمنة دون فرضٍ أو مقارنة.
- درّبه على التعبير عن انفعالاته بطرق آمنة.
- احتفل بإنجازاته مهما كانت بسيطة.
كل خطوة نحو الفهم المتبادل هي جسر نحو الثقة.
التغيّرات الجسدية والعاطفية
التغيّرات الهرمونية التي تصاحب المراهقة قد تكون مربكة للمصاب بالتوحّد أكثر من غيره ،قد يظهر عليه القلق، أو الخجل، أو سلوكيات جديدة لا يفهمها الأهل ، لذلك من الضروري التحدث معه عن هذه التغيّرات بشكل مبسّط وصادق.
وإذا كان التواصل اللفظي صعبًا، يمكن استخدام:
- الصور والقصص المصوّرة.
- الكتب التعليمية الموجّهة لذوي التوحّد.
- الإشراف النفسي لمساعدته على فهم ذاته دون خوف أو ارتباك.
- التربية الجنسية أيضًا جزء مهم من الوعي،فهي تحمي المراهق من الاستغلال وتمنحه فهماً لجسده وحدوده الشخصية.
المواهب تتفتح… حين تجد الضوء
في مرحلة المراهقة، قد تظهر بوضوح المواهب الفريدة لدى المراهقين المصابين بالتوحّد ، بعضهم يتفوّق في الفنّ، وبعضهم في البرمجة أو التصميم أو الموسيقى ، هم يحتاجون فقط إلى من يلاحظ ذلك ويغذّيه ، الروتين الذي كان وسيلة للحماية في الطفولة يمكن أن يصبح الآن وسيلة للإبداع تنظيم، تركيز،دقة، وعمق في الاهتمام.
كم من موهبة ضاعت لأن أحدًا لم يرها وسط “الاختلاف”؟
وكم من نجمٍ وُلد لأن أحدهم قال له يومًا: “أنت مميّز، ولست غريبًا.”
التحدي الأكبر: الاستقلال
حين يقترب المراهق من سنّ الشباب، يبدأ السؤال الأصعب:“هل سيتمكن من الاعتماد على نفسه؟”
الاستقلال لا يعني بالضرورة أن يعيش وحده، بل أن يكتسب القدرة على إدارة شؤونه الأساسية: الأكل، اللبس، النظافة، التواصل، والاختيار ، بعض المراهقين يمكنهم الوصول إلى درجات رائعة من الاعتماد على الذات، بل والعمل والدراسة والمشاركة الاجتماعية ، لكن هذا لا يحدث فجأة، بل يحتاج إلى سنوات من التدريب المبكر والتهيئة النفسية.
حين يصبح المستقبل كلمة أقلّ خوفًا
الكثير من الأهل يخافون من كلمة “المستقبل” ، لكن مع الوقت، يتعلمون أن المستقبل لا يُقاس بالسرعة بل بالخطوات الصغيرة الثابتة ، كل مهارة يتقنها المراهق، كل مرة يعبّر فيها عن نفسه بصدق، هي لبنة في بناء هذا المستقبل الذي كان غامضًا يومًا ما.
إن دعم المجتمع والتعليم المتخصص والتدريب المهني يمكن أن يحوّل “القلق من الغد” إلى أمل حقيقي في حياة كريمة ومستقلة.
الإنسان أولًا
التوحّد لا يختفي مع العمر، لكنه ينضج مع صاحبه ، فالذي كان لا يتحدث قد يصبح فنانًا يرسم أحاسيسه ، والذي كان يخاف من التواصل قد يصبح مبدعًا في مجاله الخاص ، كل ما يحتاجه هو أن يُعامل كإنسان كامل، بكرامة، بصبر، وبحبّ لا يحكمه معيار “الطبيعي” أو “الناقص”.
في الختام
حين يكبر طفل التوحّد، لا تنتهي الرحله ، بل تبدأ فصلاً جديدًا من الإدراك ، رحلة ليست سهلة، لكنها تصنع من الأهل قلوبًا من نور،ومن الأبناء أرواحًا ترى الحياة بمنظورٍ نقيّ وبريء.
التوحّد لا يمنع النمو، بل يعيد تعريفه ، إنه ليس طريقًا نحو “الشفاء”، بل طريق نحو الوعي، والحبّ، والاختلاف الجميل ، وفي النهاية ربما لا يحتاج هؤلاء المراهقون إلى أن يصبحوا مثلنا،بل نحن من نحتاج أن نتعلّم منهم كيف نكون أكثر صدقًا،وأقرب إلى أنفسنا كما هم تمامًا.
