يولد الطفل، وتولد معه أحلام والديه ،يحلمان بأول كلمة، بأول ضحكة، بأول خطوة نحو المستقبل ، لكن أحيانًا، تأتي الرياح مختلفة ، يمر عام، ثم عامان، ولا يسمعان تلك الكلمة المنتظرة ، يبدأ القلق… ثم التشخيص: "طفلكم مصاب باضطراب طيف التوحد (ASD)."
البداية… حين تتوقف التوقعات فجأة
تلك الجملة تسقط على الأهل كصاعقة ، يعمّ الصمت، يختلط الخوف بالإنكار، والدموع بالحيرة ، هل أخطأنا؟ هل يمكن إصلاحه؟ هل سيتكلم؟ هل سيفهم؟
لكن الحقيقة، يا من يعيش هذه الرحلة، هي أن التوحّد لا يعني النهاية، بل بداية طريق مختلف ،طريق أطول، لكنه مملوء بالحبّ إن اخترت أن تراه بعين القلب لا بعين الخوف.
الصدمة الأولى: عندما لا تجد الإجابات
وفي منتصف تلك الفوضى، ينسى الأهل أهم شيء.
أن الطفل نفسه ما زال هو ذاته — لم يتغير، لم يفقد براءته أو نوره، فقط يملك طريقة مختلفة في التواصل مع الحياة ،الصدمة مؤلمة، لكنّها ليست دائمة.
فحين يمرّ الوقت، يبدأ الأهل باكتشاف أن خلف الصمت قلبًا نابضًا بالذكاء والحسّ والعاطفة ، يكتشفون أن طفلهم ليس عاجزًا، بل يحتاج من يفكّ رموز لغته الخاصة.
ما بين الإنكار والقبول
في البداية، كثير من الأهالي ينكرون التشخيص ، يقولون: “سيكبر ويتكلم”، “إنه فقط خجول”، “الأطباء يبالغون” وهذا طبيعي جدًا، لأن الإنكار هو ردّة فعل دفاعية من الحبّ والخوف ، لكن مع الوقت، يبدأ الإدراك الحقيقي:أن الطفل لا يحتاج لمن “ينكره”، بل لمن “يفهمه”.القبول لا يعني الاستسلام، بل يعني أن نبدأ العمل بوعي وحبّ ، وحين يقبل الأهل طفلهم كما هو، يبدأ التحول الجميل ، يتحوّل الألم إلى طاقة، والحيرة إلى معرفة، والدموع إلى خطوات هادئة نحو الأمل.
التعلم من جديد: لغة بلا كلمات
التوحّد يعلّم الأهل الصبر أكثر مما تفعل السنوات ، يعلّمهم أن الحبّ ليس فقط كلمة تُقال، بل نظرة صادقة، ولمسة مطمئنة، وصمت مليء بالفهم. الأمّ التي كانت تنتظر أن تسمع “ماما” تتعلم أن ترى تلك الكلمة في عيون طفلها حين يبتسم لها ،الأب الذي كان يريد أن يلعب كرة مع ابنه،يجد فرحه حين يرى ابنه يصفّ ألعابه في ترتيب دقيق مليء بالتركيز.
التوحّد لا يسلب الفرح، بل يعيد تعريفه ، يجعل الأهل يكتشفون جمال التفاصيل الصغيرة
كلمة جديدة، خطوة نحو التواصل، أو حتى نظرة مليئة بالثقة بعد صمت طويل.
بين الأمل والإرهاق
نعم، إنها رحلة شاقة ،الأمّ تسهر، تقرأ، تقلق، وتنهار أحيانًا ، الأبّ يحاول أن يكون قويًا، لكنه في الداخل يخاف من المستقبل ، وفي لحظات التعب، قد ينسون أنفسهم.لكن الحقيقة أن الأهل أيضًا يحتاجون إلى علاج نفسي ودعم عاطفي ،فلا يمكن أن يزرعوا الأمل في طفلهم إن لم يحتفظوا ببعضه لأنفسهم ، من حقّ الأم أن تبكي، ومن حقّ الأب أن يتعب،لكن من واجبهما أن ينهضا من جديد، لأن الطفل يراهم كعالمه الآمن الوحيد.
المجتمع… حين يزيد الألم أو يخفّفه
التحدي لا يكون فقط في التعامل مع الطفل، بل أيضًا مع نظرات الناس ، حين يرون الطفل يصرخ أو يتحرك بطريقة مختلفة،تأتي الأحكام الجاهزة: “دلّع زايد”، “ما يعرف يتربى”، “غريب الأطوار”.لكن القلوب التي تفهم قليلة لكنها موجودة ، مجتمع واعٍ، معلم متفهّم، صديق لا يحكم هؤلاء يصنعون فرقًا كبيرًا في حياة الأهل والطفل معًا ،التوحّد لا يحتاج إلى شفقة، بل إلى احترام.
احترام الاختلاف، واحترام الجهد الذي يبذله الأهل كل يوم دون أن يراه أحد.
الجمال في الاختلاف
بعد سنوات من الصبر، يكتشف الأهل شيئًا لم يدركوه في البداية:أن التوحّد جعلهم أقرب إلى المعنى الحقيقي للحبّ غير المشروط ، أصبحوا يرون الجمال في التفاصيل،ويفهمون أن الإنسان لا يُقاس بعدد كلماته، بل بعمق إحساسه ،كثير من الأمهات يقلن:"ابني علّمني أكثر مما علّمته.- علّمني أن أفرح بأشياء لم أكن أراها.
- علّمني أن أستمع لما لا يُقال."
النهاية التي ليست نهاية
رحلة الأهل مع طفل التوحّد لا تنتهي بتشخيص ولا بعلاج ، إنها رحلة عمر من الحبّ، والتعلّم، والتقبّل ، رحلة فيها صعوبات، نعم، لكنها أيضًا مليئة باللحظات السحرية:أول كلمة بعد سنوات من الصمت، أول ضحكة حقيقية، أول نظرة فخروحين ينظر الأهل إلى الوراء بعد سنوات،يدركون أنهم لم يكونوا فقط يربّون طفلًا مختلفًا،بل كانوا يتربّون هم أيضًا على الحبّ بصورته الأصدق.
الخلاصة
التوحّد لا يُقسم الناس إلى “طبيعيين” و”مختلفين”،بل يُذكّرنا أن لكل روح طريقة خاصة في التواصل مع الحياة ، الطفل المصاب بالتوحّد لا يعيش خارج العالم،بل يعيش في عالمٍ أكثر صدقًا، وأقل ضوضاء، وأعمق إحساسًا.
أما الأهل، فهم الأبطال الحقيقيون
- من يقفون في صمت كل يوم ليمنحوا الأمان.
- من يتعلمون أن يحبّوا دون شروط.
- ومن يحوّلون الألم إلى طريقٍ مليء بالنور.
ليكون تتمّة قوية وساحرة للمقالتين الأولى والثانية؟
